قصة (أم سالم و النملة)
استحكم فصل الشتاء , ولم يكن هناك من حَبٍ يجده " ام سالم " ذلك العصفور البري المغّرد الذي لا يكف عن التغريد في الرياض و الغياض , و إذا لم يجد رياضاً ولا غياضاً فأنه يُغرد فوق الأراضي المرتفعة و حتى في القيعان المنقادة وكانت النملة قد أحست بأن رطوبة الشتاء قد تفسد بعض الحبوب التي قد اختزنتها في فصل الربيع , وفي أوائل فصل الصيف حيث موسم الحصاد لذلك أخرجت الحب إلى وجه الأرض ونشرته حتى يجف ثم تعيد إدخاله إلى بيتها و خزنه .
وكانت " أم سالم " قد أكثرت من التغريد في ذلك اليوم إلاّ أن الفنّان وإن كان فناناً أصيلا بطبعه فان ذلك لا يغنيه عن التماس ما يكفي حاجات بطنه بل ان الفنان لا يحسن أداء الفن الرفيع إلا إذا كان مكتفياً من الطعام ولكن الطعام في الصحراء في فصل الشتاء عزيز نادر بل هو يكون أحيانا غير موجود لذلك أعيت الحيلة ام سالم في أن تجد ما يلبى نداء بطنه حتى يستطيع أن يجد ما يلبى نداء قلبه في التغريد و التطريب .
وبينما كان يبحث متحيراً مفكراً في حل هذه المشكلة بل المعضلة إذا به يفاجأ بالخير منشوراً على الأرض وإذا به الحبُ منثور على باب بيت النمل وكاد أن يسرع بالشروع والالتهام لولا أن تذكر إن الأكل من الطعام الحرام يكسب الآثام وان هذا الحب أنما هو من كسب النمل الذي أخذ منها الليالي والأيام فلم يكن منه إلا أن أطلق تغريدة أشبه شيء بالتنهيدة ظنا منه أن الصوت الجميل يستخرج به الخير حتى من البخيل وهو يعلم أن النملة من البخل بمكان غير انه قال في نفسه : إذا كانت النملة تملك الحب النقي , فأني أملك الصوت الشجي وشتان بين الشيء الذي لا يُدرك إلا بالهبة الربانية وبين الذي يوجد في البرية .
ثم اخذ يطلق الألحان تلو الألحان عند باب النمل الشبعان إلا أن ذلك بدا له وكأنه لم يلفت أنظارها ولم يسترع أسماعها ولا أبصارها مع أن الحقيقة أنها سمعت تغاريده وطربت إلي أن يُردِدَ أمام بيتها أناشيده إلا أنها تعلم انه لم يكن الدافع له الى ذلك حُباَ يُكنه لبني جنسها ولا هو بالشوق إلي انسها وإنما ذلك الحاجه في ( بطن ) يعقوب الذي يعلم ان ما عندها هو ابعد ممن عند عرقوب ولكن الحاجة ألجأته أليها والجوع جعله يجلب كرامته الفنية إليها .
وعندنا أطال في صفيره , و عرفت النملة أنها قد بلغت ما بلغت من تصغيره و تحقيره برزت إليه من جحرها وقد رفعت رأسها إلي السماء من كِبرها فقالت له : أهلا بمطرب الوجود وفنان العهود يامن لا تستطيع الحيوانات والطيور أن توفيه حقه من الإكرام والاحترام حتى ولو خدمته الليالي و الأيام ولقد قالت ذلك خبثاَ ومكراً ولكنه شأن الفنان المطبوع المخدوع ظن انها تقوله صدقاً وقدراً فأيقن أنه لابد ان يجد عندها من القرى ما يكفيه أياماً بل اشهراً .
فقال لها مزهواً فرحاً : شكراً يا أخت النمل على هذا المديح الذي أخجل تواضعي ونفذ إلي اضالعي , فما رأيت أحدا يقدر الفن وأهل الفن بهذا العبارات الرنانة مثلك يا ذات الردف الثقيل و الخصر النحيل !!!
ثم ر إلى الحّب مره , والى فمها مره أخرى يتوقع أن تدعوه إلي ما يشبع بطنه , بعد أن أشبعته مما يرضى فنه , ولكنها لم تفعل , ونما أخذت تبتعد به عن مكان الحب وهي تلاطفه بالكلام , و تحدثه عن الفنانين العظام وكأنها لا تعير أي اهتمام لما يعنيه من حاجه إلي الطعام ولما نفذ صبره , قرر أن يفصح عما يريد ولو افتضح أمره .
فقال : يا أخت النمال , وحليفة الجمال انك تعرفين إن البَرّ قد اصبح الان صفرا من الحبوب وأننا قد أصبحنا نحن الفنانين عاجزين عن الحصول على ما يسد الرمق من الطعام ونحن قوم صنعتُنا أن ننشر الحبور و ندخل السرور في كل قلب مكسور , ولطالما شنفنا آذان أخواتنا النملات بما أطلقناه من أغنيات وإن اقل ما نطلبه من مكافأة على عملنا أن نحصل على قليل من الحب الذي يحفظ لنا قدرتنا على ابتداع الألحان , وترديد ما يعجب و يطرب من أغان وقد الجاني الزمان إليك, فقلت في نفسي ؛ أن الصلة الفنية بيننا نحن الفنانين الطيور وبين أخواتنا النملات لها شأن كبير بل هي تبرر لنا أن نقف منها موقف المُدل , الذي يخشى أن يرد فيذل .
وقد استمر في كلام مثل هذا الكلام حرى بأن يلين الصخر و يسهل الوعر غير أن للنملة تفكيراً غير تفكيره , كما أن لها تدبيراً غير تدبيره , وذلك ناشئ من اختلافها في طبيعة النظر إلى الأشياء في جميع أمور هذه الحياة الدنيا فهو فنان أصيل , ذو طبع نبيل يفضل حفنة حاضره من السرور , على كنوز في عالم غير منظور أما هي فأنها مادية الطبع جشعة الأصل والفرع , تكنز أكثر مما تحتاج ولو كان في ذلك أعظم المشقة و الإحراج .
لذلك إجابته ببرود بدا له وكأنه غير مقصود فقالت : ولكن عهدي بك أيها الفنان الكبير , وانت تخطر بين بيادير القمح والشعير فظننت انك قد أخذت من يومك لغدك وحسبت حسابا لحال مثل هذا الحال , التي أصبحت فيها مضطراً الاستنجداء و السؤال ولكنه قاطعها لأنه فهم أنها تعيره بأفنانه وتحقر ما كان يردد من الحانه وقد انتفش ريشه غضبا وصرخ فيها مقاطعا غضبا إلا أنها وهي في موقف مادي أقوى من موقفه قابلت غضبه بغضب مثله وقالت محتدة مؤنبة له على فعله: (يوم الحصايد الهتك القصايد) فاستشاط غضبه وكاد أن يفقد زمام عقله وقال مؤنبا محقرا لهذه النملة المادية قولة ذهبت من بعده مثلا :
(والله يا يوم من كيفاتي وطربي إنه يسواك واللى عندك يا معكوفة الذنب ) !!!